فرضية الأوتار الفائقة

مصطفى نصر قديح

باحث ماجستير فيزياء نظرية، مهتم بالقضايا العلمية والدينية والإلحاد الحديث.

الفيزياء هي علم غايته فهم الظواهر الطبيعية، والوصول إلى فهم الكون الذي يحيط بنا، وليتحقق هذا الأمر يرى العلماء بأن أفضل طريق لذلك هو الوصول إلى اللبنات الأساسية التي يتكون منها الكون وفهم آلية عملها، وبهذا يعتقد العلماء استطاعتنا فهم الكون من حولنا، ولقد سارت الفيزياء في هذا الطريق وأخذ العلماء في تطويرها وأصبح يتم الكشف عن أسرار وظواهر في الكون لم نلاحظها من قبل، وبناء عليه يتم إنشاء نظريات لتفسير هذه الظواهر الجديدة.

وكان من أبرزها هي فرضية ما يُسمى بـالأوتار الفائقة Super string theory، والتي ظهرت نتيجة لتطور فيزياء الجسيمات والرغبة في الوصول إلى نظرية كل شيء والتوحيد بين القوى الأساسية الأربعة في الكون، ومحاولة استخدامها في التغلب على المشاكل التي تقف بين نظريتي الكوانتم والنسبية.

الأوتار الفائقة فكرة مثيرة للاهتمام؛ حيث تخبرنا بأننا لو قمنا بتقسيم جسم ما والوصول لأصغر حجم منه فإننا لن نجد جسيماً مثل الإلكترون والفوتون وإنما سنجد وتراً مهتزاً ضئيلاً جداً، حيث تشير إلى إن كل الأحداث التي تحدث في الكون هي انعكاس لمبدأ فيزيائي واحد، ومظاهر لكينونة واحدة، وهي أوتار من الطاقة متناهية في الصغر، يبلغ حجمها واحداً في المليار من المليار من حجم الذرة، ويُعتبر"الوتر أحادي البُعد" One-dimension string هو اللبنة الأساسية في تكوين مادة الكون حسب هذه النظرية.

لكن كيف يتم ذلك؟ وكيف لوتر أن يشرح تنوع الجسيمات دون الذرية التي نعرفها وبشكل أساسي؟

يقترح العلماء بأن الأنماط الاهتزازية المختلفة للوتر، هي العامل الأساسي لتكوين الجسيمات المختلفة المعروفة، ويمكن فهم ذلك من خلال تخيل وتر واحد String مهتز.

فعندما يهتز ببطء سنحصل على مهتز واحد كبير، وإذا زاد الاهتزاز نحصل على مهتزين كبيرين، وإذا زودنا الاهتزاز أكثر سنحصل على ثلاثة اهتزازات، وهكذا.. إلخ، وبهذه الطريقة يمكننا الحصول على أنماط اهتزاز مختلفة للوتر الواحد.

يتصور العلماء أن حجم الأوتار ضئيل جداً قد يكون بطول بلانك 10 أس -35 متراً، ولكن عندما نتأمل اهتزازة الوتر. فإننا نجده يهتز في بعدين (أعلى وأسفل) وهو أمر يُمكننا من حساب وقياس ما نريده بسهولة مقارنة بحجمه، لكن بالقياس على الأوتار الفائقة فإننا نجد أن الاهتزازات تكون معقدة جداً في بعدين نظراً لحجمها الضئيل، ولذا يعتقد العلماء أن الأوتار الفائقة تهتز بطريقة ما في سبعة أبعاد -أبعاد أصغر بكثير من تلك التي نعرفها- إضافة إلى الأربعة أبعاد الزمكانية المعروفة، وهي أبعادنا الثلاثة المعروفة الطول والعرض والارتفاع مضافاً إليها البعد الزماني، أي أن النظرية لكي تعمل فإنها بحاجة إلى أحد عشر بعداً، وفي هذه الأبعاد الإضافية تتذبذب الأوتار فتؤدي إلى نشوء القوى الأربع الأساسية في الكون (القوى النووية الضعيفة – والقوية – والكهرومغناطيسية – والجاذبية).

ويفترض العلماء أن هذه الأبعاد تلتف حول نفسها بحيث لا نراها في عالمنا. وبما أن الكون يحتوي على هذه الأبعاد المختلفة في هندساتها العديدة والمتنوعة، وعلمًا بأن قوانين الطبيعة تعتمد على هندسة الطبيعة، إذن فمن المتوقع أن تُشكِّل هذه الأبعاد أكواناً عديدة مختلفة في قوانينها وحقائقها. هكذا تؤدي فرضية الأوتار إلى فرضية أخرى تسمى الأكوان المتعددة Multiverse.

يشير عالم الفيزياء النظرية ميشيو كاكو Michio Kaku في كتابه العوالم المتوازيةParallel worlds إلى أنه تم اكتشاف مليارات من الحلول لمعادلات نظرية الأوتار، وكل حل من هذه الحلول يصف كونًا رياضيًّا متناسقًا ومختلفًا عن الأكوان الأخرى التي تصفها الحلولُ الثانية لنظرية الأوتار، وهو ما يعني أنه لا يوجد كون واحد فقط أو اثنين أو عشرة وإنما مليارات الأكوان[1]. البعض لا ينتبه للفرق بين (الفرضية) و (النظرية)، إذ ليس مطلوباً فقط من النظريات العلمية التنبؤ العلمي، بل أن تقدم تفسيراً للظاهرة. هنالك نظريات ذات قدرة تفسيرية كبيرة ولكنها ضعيفة في قابلية الاختبار وفي التنبؤ المحدد، وكما يجادل جورج إيليس Goerge Ellies والناقدون الآخرون؛ فنظريات الأكوان المتعددة متطرفة في هذا المنحى نظراً لأنها لا تقدم توقعات محددة، ومع ذلك فهي قادرة على تفسير كل شيء، فنظرية مجال عملها 10 أس 500 من الأكوان أو أكثر (أي 1 وأمامه 500 صفراً) يمكنها أن تكتنف عملياً أي ملاحظة. ولو تمت مراجعة النتيجة المنظورة فلن تجد نظرية الكون المتعدد أي مشكلة بتفسيرها كذلك، فيمكن أن نتوقع وجود زرافات في بعض أكوان الكون المتعدد، ومن المتوقع أيضاً وجود أكوان لا يوجد فيها زرافات[2].

لكن هل الأوتار الفائقة والعوالم المتعددة حقيقية؟

الأوتار الفائقة تفسير أنيق يعجبنا كفيزيائيين نظريين، حيث يعطينا ما كنا نأمله ألا وهو اللبنات الأولية للكون، وتفسير كوننا الذي نعيشه، لكنه تفسير يقابل الكثير من الصعوبات، أهمها الآتي:

1- تحتاج الأوتار الفائقة إلى الكثير من الافتراضات، فتماسكها رياضيًا يتطلب أن يكون هناك أبعاد أكثر من أربعة، فإضافة سبعة أبعاد مسألة خطيرة جدًا في مجال توصيف الجسيمات النووية. 

2- ثباتها قائم فقط على التعويل على فكرة أن العالم قائم حقاً على مبادئ رياضية، وأنه يوجد تفسير منطقي لكل شيء، والرياضيات طريقة لوصف الأشياء بشكل منطقي.

3- من المسائل المعقدة كذلك مسألة تحديد الشكل الخاص الذي تتخذه الأبعاد الإضافية في التفافها على نفسها.

4- الأوتار الفائقة ما زالت إلى وقتنا الحالي مجرد فكرة رياضية، والبعض يضعها في خانة فلسفية، نظراً لعدم وجود دليل تجريبي واحد رصدي يدعمها، والسبب في ذلك هو أن الأبعاد الإضافية السبعة أصغر بكثير مما يمكن الوصول إليه بمسـرعات الجسيمات، فكما أسلفنا يتصور العلماء حجم الوتر بما يعادل طول بلانك تقريباً، وهو حجم ضئيل جداً، مما يزيد الأمر صعوبة على أي مسرع لمحاكاة تلك الأحجام الضئيلة.

وبناء على ما سبق، فالأوتار الفائقة ما زالت فكرة رياضية لم يؤيدها دليل تجريبي رصدي أو ملاحظة واحدة، وهو الأمر الذي يجعل كثير من الفيزيائيين يرفضونها، ويقر عالم الرياضيات بيتر فوتPeter Woit  أن: "نظرية اللوحةLandscape  الشاملة للأوتار: فارغة المضمون تجريبياً، فالنظرية لا يمكن إطلاقاً أن تتنبأ علمياً بأي شيء، ومن المستحيل محاولة دحضها"[3]، إلا أن البعض يؤيدونها كأنها أصبحت العلم الذي لا يُرفض. 

 لذا علينا ألا نتسرع في الأمر، فلا ينبغي أن نقبلها بما هي عليه وبافتراضاتها المتعددة، كأنها أصبحت نظرية حقيقية مثبتة بالأدلة كما يفعل البعض، ولا ينبغي أيضاً أن نرفضها رفضاً قاطعاً ونهملها، لكن علينا البحث عن الطرق العلمية لإثبات صحتها أو تعديلها أو نفيها.

المراجع:

[1] Michio Kaku, Parallel Worlds: A Journey Through Creation, Higher Dimensions, and the Future of the Cosmos, DoubleDay, 2004.pp. 207-208

[2] Carr and Ellis 2008 (note 50), 2.35.

[3] Peter Woit, Not Even Wrong (London, 2007), 242

مراجع للاستزادة:

كتاب الكون الأنيق لبراين جرين.

بول ديفيز، كتاب الأوتار الفائقة: نظرية كل شيء. ترجمة: أدهم السمان، ط. دار طلاس، دمشق 2011م.

http://www.superstringtheory.com/index.html

http://theory.tifr.res.in/~mukhi/Physics/string2.html

Polchinski, Joseph (1998). String Theory, Cambridge University Press.