مقابلة العدد : جيل ليبوفتسكي

مقابلة العدد : جيل ليبوفتسكي

إعداد ومراجعة ترجمة: البشير عصام المراكشي

من علماء الشريعة المغاربة ومن الدعاة الإسلاميين حاليا. ولد الشيخ عام 1972م بمدينة مراكش، ثم انتقل إلى الرباط ليحصل على شهادة مهندس الدولة في الاتصالات. حصل من كلية الآداب والعلوم الإنسانية شعبة الداراسات الإسلامية على الدكتوراه في الفقه وأصوله تحت عنوان (المصالح والمفاسد في المذهب المالكي وتطبيقاتها المعاصرة). قرأ على عدد من المشايخ المحققين في مجالات الفقه واللغة والعقيدة. ومن أبحاثه المنشورة: (قلائد العقبان بنظم مسائل الإيمان)، (العلمنة من الداخل)، (تكوين الملكة اللغوية. وقد ترجم كتابا مهما وهو "أفول الواجب" للفيلسوف الكبير جيل ليبوفتسكي ترجمة حديثة دقيقة.

مقدمة وتعريف: رضا زيدان

ترجمة: بنت عبد الرحمن 

جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي معاصر، ولد عام 1944م، وهو أستاذ في جامعة جرنوبل Grenoble الفرنسية، ويحمل دكتوراه فخرية من أكثر من جامعة، ويعد من أشهر الفلاسفة الرئيسيين الفرنسيين. وتعود هذه الشهرة إلى كتابه الصادر عام 1983م: "عصر الفراغ". كان في أول حياته ماركسياً، ورغم تحوله إلى الرأسمالية واعتبارها النموذج الاقتصادي الوحيد المشروع، إلا أن تحليله لبعض القضايا الاجتماعية يحمل بعض التأثرات الماركسية الخفية.

لكن بشكل عام ليس ليبوفتسكي فيلسوفاً تقليدياً ينتمي لفلسفة كانطية أو هيجلية أو غيرها، ولا يحلل نصوص الفلاسفة القديمة مثل هايدجر، ولا تشغله اللغة مثل فلاسفة اللغة العادية، وإنما كان مشغولاً بمظاهر الحداثة على الأفراد والمجتمع خلال القرن العشرين والألفية الجديدة. وذلك مثل الفردانية والاستهلاك وطبيعة الواجب والأخلاق عند الناس، بل واهتم بمظاهر هذه المظاهر، فهو يكتب عن المكياج والإعلانات التجارية وكيفية قضاء الناس وقت الفراغ وغير ذلك من الأمور الصغيرة، ويتناولها في أعماله بمعالجات مختلفة ليكشف عن مدى التغير في الطبيعة الإنسانية. ومن أهم ما قدم في كتابه "عصر الفراغ" هو رصد الأضداد، فقد طرح أمثلة كثيرة على تناقضات الإنسان خلال القرن العشرين، مثل التمسك بحق الانتخاب والامتناع عن التصويت وغير ذلك. وفي كتابه "أفول الواجب" عام 1992م حاول تحليل طبيعة الواجب عند الإنسان المعاصر، وانتهى إلى أن الإنسان يحاول اختراع أخلاقه، وهذا نابع من الحرية الواسعة الآن، ونتيجة لذلك تجد تناقضات أيضاً، فتجد ظهور أصوليات أخلاقية تدعو إلى الأخلاق، وتجد إلحاداً صريحاً مقاتلاً يدعو إلى نبذ كل أساس أخلاقي، ويرى المؤلف أنه "لا شك في وجود روابط ممكنة بين هذين المحورين، إذ يمكن تفسير الغليان الأخلاقي بكونه رد فعل على انهيار السلوك، وتفسير انتعاش الضمائر على أنه كفاح للخروج من دائرة الفردانية منعدمة المسؤولية" [أفول الواجب، ترجمة البشير عصام المراكشي].

باختصار: للمؤلف اهتمام كبير بالتغير الاجتماعي منذ 1965م إلى اليوم على المستويات التي رغم صغرها إلا أن لها دلالاتها، وهذا التغير وصل إلى أقصاه في الحداثة مع الألفية الجديدة، مع توفر التكنولوجيات بشكل عام والتسوق المبالغ فيه، ولذلك يعتبرها المؤلف مرحلة حداثية قصوى hyper-mode مثل مرحلة ما بعد الحداثة بالنسبة للحداثة.

نترككم مع الحوار والتنويه إلى عدم تبني جميع أفكار وردود جيل ليبوفتسكي بالضرورة...

عصام : قمت بالتأسيس لمفهوم "الحداثة المفرطة" hyper - modernité، والتي هي حداثة محمومة ومبالغ فيها، تميّز اللحظة التاريخية الجديدة للمجتمعات الليبرالية، وتحل محل كل الأنظمة المنافسة الأخرى. هل تؤسس هذه الحداثة المكتملة والمعَوْلَمة - حسب رأيك – لنوع من مفهوم "نهاية التاريخ"؟

ليبوفتسكي : لا يتطابق النموذج الاجتماعي التاريخي للـ"حداثة المفرطة" مع مصطلح " نهاية التاريخ " الذي اشتهر على يد فوكوياما. فإن الحداثة المفرطة لا تعبر عن نهاية الحداثة ولا عن نهاية التاريخ. إنها لحظة ثانية للحداثة، تعني تكريس وتصلب العناصر الثلاثة التي صنعتها الحداثة (التكنولوجيا، السوق، والديمقراطية الليبرالية لحقوق الإنسان) فضلاً عن محو "الأديان العلمانية" (ريموند آرون) التيادعت حيازة مفاتيح الوضوح النهائي لمستقبل الانسانية. لقد تلاشت هذه النظرة اللاهوتية للتاريخ : يتسم عصرنا بـ"أزمة المستقبل"، ونهاية الثورة، ومحو ديانة التقدم. لقد تلاشت البقايا "الدينية" في الحداثة (فكرة الثورة الراديكالية، الإيمان بالتقدم اللامتناهي والضروري والذي لا رجعة فيه). نحن لا نعرف ماذا سيحدث غداً، ولم يعد عندنا مخططات "لاهوتية" كبرى لتفسير مسار المغامرة البشرية. هذه الطريقة في فهم التاريخ قد انتهت فعلاً. لكنها ليست نهاية التاريخ ! بل هي فقط نهاية طريقة معينة لفهمه. نحن في اللحظة التي صار تمثيلُ المستقبل فيها مفتوحاً، ولا يمكن تقرير شيء بصدده : لا أحد يعلم ما سيكون في الغد، وما الوجوه التي ستكون عليها مجتمعاتنا. في الوقت الحاضر، وفي الغرب، لم يعد لدينا نماذج بديلة عن السوق والديمقراطية. لكن ما الذي سيكون عليه الأمر غداً ؟ وعلى أي شكل ستبدو الديمقراطيات والسوق؟ لا أحد يعلم. مع الحداثة المفرطة، نفهم أن التاريخ لا نهاية له : كل الرهانات مفتوحة. ليس "نهاية التاريخ"، ولكن قدرة مضاعفة ولا متناهية على فعل التاريخ وتسريعه. قدرة مضاعفة على إنشاء تاريخ غير مكتوب.

مََن الذي لا يرى القوة الهائلة لتاريخ تحول العلوم التقنية ؟ حتى في إطار السوق، لا يمكن لأحد أن يتخيل الوجه الذي سيكون عليه العمل، والتربية، والحياة اليومية، والعلاقة بين الأنواع إلخ. علينا ألا نخدع أنفسنا : التاريخ في حركة سير دائبة أكثر من أي وقت مضى: كل شيء ينبغي إنتاجه واختراعه وإعادة هيكلته.

عصام : تُقدّم في بعض كتاباتك مرافعة لصالح الرأسمالية مِن خلال تفنيد الرؤية الأحادية التي لا ترى في المجتمع الاستهلاكي الذي أنشأته الرأسمالية في القرن التاسع عشر سوى القبح والفساد. وتتحدث عن وجود بحث عن "الجمال" في الأشياء (الإعلانات مثلاً) وأيضاً في بعض سلوكيات المستهلك. إلى أي مدى يمكن للفن - بالمعنى الحقيقي للمصطلح - أن يتعايش مع السوق ؟

ليبوفتسكي : لقد وُلدت رأسمالية جديدة، "الرأسمالية الفنانة" التي تُدمج - على نطاق واسع جداً - منطق النمط الجمالي، والحلم، والإغراء في مختلف قطاعات العالم الاستهلاكي. صار الإعلان يسعى لأن يكون إبداعياً، وصارت عروض الأزياء المختلفة تبدو مثل استعراض أو أداء فني. صارت هندسة الصورة مزدهرة. لم نُنتج قط من قبل هذا القدر من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والعروض والموسيقى من الأنواع كلها. نحن نعيش في عالم يومي مليء بالصور والموسيقى والحفلات الموسيقية والأفلام والمجلات وواجهات العرض والمتاحف والمعارض الفنية والعروض والمواقع السياحية والحانات العصرية.

هذه هي الرأسمالية الفنانة أو الـ"الرأسمالية الجمالية من وجه آخر"، والتي هي نظام يدمج الجمالي في الاقتصادي، ويتضمن بشكل منهجي ترتيب الأسلوب والموضة والمشاعر والترفيه في التطوير والاتصال وتوزيع السلع الاستهلاكية. لم يعد هناك مجال يفلت من التنميط الفني : صناعات، ثقافات، عمران، هندسة، حانات، فنادق، رياضة، سياحة، موضة؛ تسعى المؤسسسات في كل مكان إلى تجييش العواطف من أجل ربح الأسواق. المصممون وفنيو جراحة التجميل يعيدون في كل مكان رسم شكل المواد الصناعية الأساسية، حيث صار عدد منها اكسسوارات موضة. صارت المحلات التجارية والفنادق والحانات والمطاعم موضوعات لتصميم ديكورات مخصصة، وإضفاء جو مسرحي في مجالات الفكرة واللون والإضاءة. تمت إعادة هيكلة المراكز العمرانية، وإضفاء طابع استعراضي على طريقة "ديزني" عليها من أجل الاستهلاك السياحي.

المصانع والمستودعات والسجون والأديرة المهجورة حُوِّلت إلى فنادق فخمة أو إلى مراكز فنية. في كل مكان، تثار حساسية المستهلك، وحدس المبدعين والفنانين وإلهامهم، والحس الجمالي العام. وهذا يقطع بشكل جذري مع الصورة التقليدية للرأسمالية "الفوردية" (نسبة لشركة فورد) الميكانيكية، العقلانية والحسابية بشكل بحت. لم يعد هذا أوان الفصل بين الإنتاج الصناعي والثقافة الفنية : نحن الآن في اللحظة التي يعمل فيها النظام الاقتصادي على إضفاء الجمال العام على الأسواق الاستهلاكية والبيئة اليومية. هذا وقت المزج، وإزالة الضوابط التي كانت تميز بين الفن والصناعة، بين فن الطليعة والسوق. يدخل منطق الموضة في كل شيء، بحيث يتم تصميم كل منتج ليصبح قابلاً لأن يعتني هواة الجمع به، وليتجدد بصفة موسمية.

ينمو التعاون في العلامات التجارية : تتضاعف السلاسل المحدودة من طرازات السيارات بالتعاون مع ماركات الموضة؛ تقوم الشركات المصنِّعة للمعدات الرياضية بالاستعانة بالمبدعين العصريين، تدعو العلامات الفاخرة الفنانين لتصميم التشكيلات، وعرض الواجهات وإخراج ومضات إعلانية. تخيلَ كارل لاغرفيلد زجاجة مشروب الكوكا. رسَمَ تاكاشي موراكامي، ستيفان سبروس ويايوي كوساما تشكيلات لـ"فويتون". عهدت سووتش بمشروع عدد من النماذج المصنوعة في سلاسل محدودة إلى فنانين مشهورين. دُمج النشاط الفني الفعلي بشكل متزايد في عالم العلامات التجارية، مزعزعاً بذلك التناقضات التقليدية بين الفن الطليعي وعالم الأعمال، بين الفن والموضة.

إن الرأسمالية المعاصرة لا تعني فقط صعود الصناعات الثقافية. إنما تعني أيضاً مكاناً جديداً ومنزلة جديدة للفن في مجتمعاتنا. لقد اختفى المفهوم الرومانسي للفنان الملعون، المنقطع عن النظام الاجتماعي والاقتصادي. على الأقل منذ أن أعلن "وارهول": "أنا فنان تجاري". لقد تغيرت المعطيات، مؤدية إلى ضبابية في الحدود بين الفن والموضة والإعلانات. لم يعد هذا أوان المجد الخالد، بل أوان البحث عن شهرة إعلامية تضمن البيع والدخول في شبكات الترويج الدولية. انتهى زمن "فان جوخ" واللوحات ذات القيمة بعد وفاة الفنان الذي لم يلق أدنى اعتراف بعبقريته خلال حياته. إن قيمة العمل الفني لا تكمن في مجانية نجاحها الجمالي، بل - أولاً وقبل كل شيء - في سعرها في السوق. يكمن النجاح في تصنيف الفنان، وهو شيء لا ينفصل عن عمل الاستعراض والإثارة، عن الترويج الإعلامي، وعن بناء وتبليغ صورة يمكن تمريرها في كتالوجات العرض، والشبكات الدولية للمعارض والمؤسسات الثقافية.

في العصر البطولي للحداثة الطليعية، ما كان يشكّل سمو الفن حقاً هو معارضته للأعراف المؤسساتية، للعادات والقيم الثابتة، ولكل ما هو من خصائص المجتمع البورجوازي والرأسمالي، والذي كان الفنان يراه سيسقط في حمأة الفكر المحافظ والانحطاط والذوق القبيح. كان الفن - وأراد أن يكون - عَالَماً مختلفاً ومستقلاً، له قوانينه الخاصة، ومعاييره الخاصة، وفي صراع مع عالم المال والتجارة. ولأنه كان محصوراً في الهواة وفي نخبة من المعتنين بجمع التحف الفنية، فقد كان الفن الحديث سوقاً ضيقاً، يتجاهل تقنيات التسويق، ويحتقر النجاح التجاري. يجب الإقرار بأن هذا النظام قد مضى وانقضى. اليوم، لم يعد عالم الفن"معادياً للعالَم": إنه يشارك بقوة في قوانين النظام الإعلامي والاقتصادي. تتكاثر الأماكن والتظاهرات الفنية في كل مكان: لا يوجد الآن بلد لا يرغب أن يكون له متاحفه ومعارضه ومراكزه للفن الحديث، ومعارضه التجارية الدورية.

في مجال المبيعات العامة، تقدم شركات متعددة الجنسيات حقيقية "كرستيز وسوثبيز" ترويجاً غير مسبوق لسوق مزدهرة. صارت معارض المتاحف نفسها مصممة كمنتجات تجارية : تباع في كل أنحاء العالم، ويجب أن تولّد رقم مبيعات. لم تعد هناك علاقة بالنظام القديم المبني على الإحسان والمكافآت وطلبيات المؤسسات والمعارض الفنية الصغيرة والتجار المستقلين: لقد انتقلنا إلى عصر التسليع المعولم للفن. ما كان يبدو أنه يجب أن يفلت من المنطق التجاري، صار يتماشى بشكل متزايد مع القوانين العامة للعالم التجاري والإعلامي والاستهلاكي. من هنا جاءت دوامة المبيعات، التي تنتقل من رقم قياسي إلى رقم قياسي آخر. إن الأعمال الفنية التي يتم تقييمها من أجل تفردها وندرتها، تصبح منتجات استثمارية مثل المنتجات التجارية الأخرى. نحن نعرف المبالغ الفلكية التي وصلت إليها لوحات فان جوخ. ولكن الذي يعبر أكثر عن هذا المعطى التجاري الجديد، هو الأعمال الأكثر حداثة التي تقترب في قيمتها من الأعمال العظيمة التي كُرست عبر الزمن، بل إنها تتجاوزها. لم يعد نادراً أن يباع عمل لفنان حديث الوفاة بأثمان تعادل أو تتجاوز أثمان روائع الأساتذة الكلاسيكيين.

لقد احتضن السوق عالمَ الفن. مما يفتح لهذا الأخير موارد لم تستكشف من قبل. عصر الرأسمالية الفنانة هو ذلك الذي يتمثل في الاستعراضات المتحفية المرفوعة إلى مصاف الوجهات السياحية الجماهيرية. من أجل جذب جمهور يتزايد بشكل مطرد، وتشيِّد - في كل مكان في العالم - متاحف جديدة، تتنافس في الضخامة والهندسة المتجددة والصورة الصادمة. كان المتحف مكاناً للتأمل الخاشع، فصار فضاءً ترفيهياً موجهاً للاستهلاك البصري والمُتَعي hédoniste للجمهور العريض. هنا مرة أخرى، فُقدت الحدود القطعية الحاسمة بين الثقافة الرفيعة وثقافة الموضة، بين الفن والتواصل، بين الفن والاستعراض. وهذه هي اللحظة التي تسعى فيها بعض المتاحف – متحف اللوفر مثلاً - بسياستها للتوسع التجاري، إلى فرض نفسها كعلامة تجارية تُباع وتصدّر للخارج.

عصام : في هذا العصر الجديد لـ"الحداثة المفرطة" الذي تعيشه مجتمعاتنا منذ بضعة عقود، تتفتَّت الهياكل الكبيرة الصلبة (الدين، الدولة ..إلخ) ، ويفرض السوق نفسه كمنظِّم جديد للمجتمعات الحديثة. هل سيستمر هذا الاتجاه ؟ أم أن المسيرة الظافرة للسوق ستفقد بريقها بفعل الأزمات الاقتصادية، والمشكلات البيئية، وقضايا الأخلاق والهوية؟

ليبوفتسكي : الأزمات التي تعصف بالأسواق المالية ستؤدي حتماً إلى تحولات. لكننا لا نرى - في الوقت الراهن - ما الذي يمكنه أن يوقف استمرارية توسع الرأسمالية المعولمة. لم يبق سوى السوق التنافسي، الذي يفرض نفسه على العالم كنظام اقتصادي واحد. ما الجزء من العالم الذي لا يتبنى إيديولوجية النمو؟ ولا يحلم بالتمتع بالجنات الاصطناعية للعالم الاستهلاكي؟ لا شك أن المشكلات البيئية ستؤدي إلى تعزيز أنماط استهلاك أكثر اعتدالاً، وأقل التِهاماً للطاقة وأقل تدميراً للغلاف الجوي؛ ولكن التسليع الكامل للتجربة، سيتصاعد مع الامتداد على الكوكب كله. إن إدماج إكراهات التنمية المستدامة، لن يكون مقبرة لرأسمالية الاستهلاك المفرط، ولكن أداة لاستمراره الدائم على الكوكب. من البدهي أن الأزمات الاقتصادية لن تتوقف بأعجوبة. فهل سيعلن هذا نهاية الرأسمالية ؟ لا أعتقد ذلك. ليس ذلك وقت “الانقلابات الكبيرة”[1]، والبدائل الجذرية التي يُفترض أن تقسم التاريخ إلى شطرين. في مواجهة الرأسمالية، لسنا نملك أي حل بديل ذي مصداقية، ولا أي نموذج مضاد شامل. لا مهرب إلا من خلال متابعة المسارات التي حددتها الحداثة عبر اختراعاتها الأساسية الثلاثة : العلوم التقنية، والسوق، والفردانية الديمقراطية. ومع ذلك، فإن اقتصاد السوق ليس حقيقة ثابتة : يجب علينا تنظيمها (وليس إدارتها حسب "الطراز القديم").  

---------------------------

[1] استعمل ليبوفتسكي هنا لفظ "le grand soir" الذي ترجمتُه الحرفية هي "المساء الكبير"، وهو مصطلح ظهر في أواخر القرن 19 في الأوساط السياسية والنقابية، ويشير إلى مفهوم الأمل في انقلاب مفاجئ وجذري للنظام الاجتماعي القائم (البشير عصام).

---------------------------

ولا شك أنه في مواجهة التحديات العالمية، البيئية والديموغرافية، تُفرض علينا الحاجة المؤكدة إلى نظام إنتاجي يقلل التدفقات المادية وتأثيرها السلبي على البيئة. لكن من الوهم الاعتقاد أن ذلك سيتحقق عبر الركود الاقتصادي والتقليل "الفضلي" (نسبة إلى الفضيلة) للاحتياجات. على عكس ما يؤكده قادة هذه التيارات، فإنه لا توجد حلول أخرى سوى تلك التي ينكرونها: التنمية الاقتصادية، والابتكار العلمي والتقني المدفوعان من طرف السوق. إنها الوسائل العملية الوحيدة القادرة على الاستجابة لتحديات العالم المستقبلي. لا توجد طرق أخرى أفضل من الاستثمار في البحث والتطوير، في حركية "التدمير الخلاق" القادرة وحدها على اختراع نماذج جديدة للإنتاج والاستهلاك. الحلول موجودة: يجب البحث عنها في تطوير الذكاء العلمي والتقني والإبداع المقاولاتي. مع أن الأخلاق ضرورية، فإن "الابتكار هو مَن سينقذ العالم". الأخلاق دون ديناميكية اقتصادية تبقى عاجزة عن حل المشكلات العالمية الكبرى التي تبدو في الأفق. من الصحيح أن السوق ليس حقيقة خالدة، ولكن حياته ليست مهددة في الوقت الحاضر: ما يزال في جعبته أوراق يمكنه أن يلعبها.

عصام : بعيداً عن المرجعيات الأخلاقية للقرون السابقة، التي تميزت بالطابع الديني أكثر من غيره، تَخلُق المجتمعاتُ الحديثة قواعدها الأخلاقية الخاصة، ذات الطابع السائل وسريع الزوال، والمتوافقة مع قوانين السوق. إلى أي مدى، يمكن لهذه الأخلاق أن تلبي "الاحتياجات" المتنامية للإنسان، في منظومة من القيم الأخلاقية المنظِّمة للمجتمع؟

ليبوفتسكي : من الصحيح أن الثقافة الفردانية تذيب قوة الإلزام في الأوامر الأخلاقية، وتدمّر التأطيرات التقليدية والدينية القديمة لصالح الـ"أنا أولا"، و"كلٌ يعمل لنفسه"، و"المال السيد". ومن هنا جاءت فكرة نهاية كل الأخلاق، وثقافة دون إيمان ولا قانون، وأفول معنى الواجب. مع ذلك، فإن حركية الفردانية المفرطة لا ترادف الخصخصة دون روح والفراغ الأخلاقي. يشهد على ذلك : نمو الحياة الجمعوية، والإرادة الإيكولوجية، والعمل التطوعي، والأعمال الخيرية الجماهيرية. لا ينبغي أن يحجب تقديس المال الجانب الآخر من روح العصر : الإجماع حول حقوق الإنسان، والاندفاع الخيري، والهاجس الأخلاقي في بحوث طب الأحياء، والشركات، والبيئة، والحياة السياسية. بقدر نمو الحق الذاتي في العيش الحر، تَفرض نفسَها اجتماعياً موضوعاتيةُ القيم والمسؤولية الأخلاقية. لكن مع وجود فارق، هو أنها أخلاق غير مؤلمة، "بدون التزام ولا عقاب"، أخلاق عاطفية، ودون جهد. وهكذا ينتشر الوعي الإيكولوجي دون مبدأ إنكار الذات : فقط المطالبة بجودة أعلى للحياة، والاستهلاك بطريقة أفضل وبشكل مختلف. في كل مكان، يتآلف القلب مع مباهج الاستعراض، والقيم مع المصلحة، وطيبة القلب مع المشاركة المُحَجَّمة، وهاجس المستقبل مع التطلعات الحتمية للحاضر.

إذا كانت الفردانية اللامسؤولة موجودة، فإنه توجد أيضاً فردانية مسؤولة. لم يصبح الجميع مستخِفّين حين يقولون: "أنا وبعدي الطوفان". لسنا في الدرجة الصفر للأخلاق. لم يمت الشعور بالاستياء الأخلاقي، لم يختفِ الإحساس بالخير والشر، يمكن وصف مُثل العدالة بأي شيء إلا بأنها دُفنت. ملايين من البشر ينخرطون في جمعيات من أجل قضايا يرونها عادلة وخيّرة. من كل حدب وصوب، نرى تصاعد دعوات لتخليق الحياة العامة. من كل جانب، يؤكَّد على فكرة أن الضرورة الأولى هي وجود مسؤولين سياسيين "نظيفين" وشرفاء ونزيهين. الفردانية ليست مقبرة الأخلاق : ليست مرادفة للأنانية والاستخفاف والفساد. إنها بلا شك منحَدَرٌ يؤدي لذلك، ولكنها ليست المنحدر الوحيد. يجب رفض فكرة ربط الانحطاط الأخلاقي بالحداثة الفردانية والتجارية.

عصام : ما الذي يمكننا فعله في بلداننا المتخلفة اقتصادياً للإفلات من "الحداثة المفرطة" - إن كان الإفلات منها لا يزال ممكناً؟- ثم، هل من المحبّذ أصلاً السعي إلى هذا الإفلات، في ظل انعدام بديل آخر، على الأقل على المدى القصير (فتكون "الحداثة المفرطة" إذن: «أسوأ الأنظمة، حين نستبعد من المقارنة جميع الأنظمة الأخرى[2]»!)؟

--------------------------

[2] تضمين لجملة شهيرة لوينستون تشرشل، قال فيها عن الديمقراطية إنها : "أسوأ طرق الحكم، إذا استثنيت الطرق الأخرى كلها". Democracy is the worst form of government, except for all the others (البشير عصام)

--------------------------

ليبوفتسكي : نحتاج إلى تغييرات في العمق، إذا أردنا تفادي الأسوأ، وتشكيل مجتمع أكثر انسجاماً مع مُثُل الأنسنة المتعلقة بالسلم المدني، وتقليل الفوارق المجتمعية، وتحقيق إمكانات الأفراد. هذه المُثل هي التي يجب أن تُلهم جميع الأمم، بما فيها الدول النامية. لا شيء أهم للمستقبل من بناء عالَم يُعترف فيه بالأولوية المركزية لمجال الذكاء والعقل، وبالتالي تكوين البشر. علينا تعزيز مجتمع تعليمي دائم وشامل. المراهنة على التربية، تَعني أولاً تعزيز مدرسة طموحة قادرة على رفع الموارد الفكرية، وقدرات التحليل والتفكير لدى الجميع، بمَن في ذلك أبناء الشعب. لكن الطموح التعليمي الذي يجب أن نتبناه، يتجاوز مجال المكتسبات الأساسية والمعارف التقنية والمهنية.

نحن في حاجة - أكثر من أي وقت مضى - إلى تعليم "شامل"، تندرج فيه العلوم الإنسانية والأدب والتاريخ والثقافة العامة، لأن هذه الأقطاب تشكل موارد ضرورية لقدرة الأفراد على الاستقلالية، والوسيلة اللازمة لعدم التيه وسط هذه الصُّهارة الهائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الانترنت، ولإعلاء القدرات الفكرية والنقدية لدى المواطنين. يجب أن تُطرح التربية – بشكل متساوٍ - كقوة معارضة للهيمنة الغازية للاستهلاك المفرط، وكأداة تفتح الطرق لمجالات جاذبة أخرى ذات صلة بالثقافة والجمال الفني. يجب أن تَسمح بالقدرة على تذوق أنماط أخرى من الملذات، تلك التي تقدمها الحُجج العقلانية وجماليات الأساليب الفنية والأدبية. من مهام المدرسة : تعزيز تطوير مناطق الجذب غير تلك التي تمنحها السلع الإعلامية - التجارية سريعة الزوال - في مواجهة تفشي هذه الأخيرة، تتشرف المدرسة بكونها تضع كغاية لها تكوين أفراد مستقلين، قادرين على أن يكونوا منجذبين  لأمور أخرى غير الموضة، والأدوات الالكترونية، والمسلسلات التلفزيونية وألعاب الفيديو.

يجب أن تُفهم التربية على أنها مجموعة من الآليات التي تسمح باكتساب المعارف الضرورية لممارسة مهنة معينة. ولكن أيضاً باكتساب التفكير العقلاني والمواطنة. في مواجهة الإغراء الاستهلاكي المتفشي، علينا خلق سياقات اجتماعية وثقافية كفيلة بتعزيز تطوير أهداف وجودية جديدة. ما سيجلب الحلول الدائمة ليس هو الدعوات المثالية لـ"الإضافات الروحية". بل الاستثمار الشامل في التربية والثقافة مع النماذج (الباراديجمات) البيداغوجية الجديدة، القادرة على توليد الرغبات الإبداعية المتنوعة. وهذا يمر عبر التعبئة الثقافية المصممة كأداة رئيسية تسمح بتطوير أساليب للحياة "أكثر ثراء"، وأقل اختلالاً، وأقل تركيزاً على الاستهلاك. لسنا بحاجة فقط إلى طاقات جديدة من أجل تنمية مستدامة. ولكن أيضاً إلى طاقات وجودية جديدة، واقتصاد عقلي جديد، وسياسة ثقافية جديدة في خدمة التنمية الشخصية للأفراد.

إذا كان من الضروري الحفاظ على توازن النظم البيئية، فإنه من الضروري أيضاً مكافحة الاختلالات الوجودية التي تؤدي إليها النزعة الاستهلاكية الشاملة. يجب أن يُعَدَّ الاستثمار الثقافي واحداً من أكبر الإجابات على النمو الاستهلاكي غير الطبيعي. ما سيخلصنا من النزعة الاستهلاكية ذات البعد الواحد، ليس هو المثاليات التجريدية، أو الحملات الأخلاقية، أو عالم إعلامي أكثر "ذكاء"، وإنما الذي سيخلصنا منها هو البؤر الثقافية الحاملة للإثراء الذاتي طويل الأمد.

عصام : بعض المفكرين يتحدثون عن "عالم ما بعد أمريكا"[3]، وآخرون يتحدثون بشكل أعم عن "انحطاط الحضارة اليهودية –النصرانية"[4]. هل ترى أن هنالك انقلاباً في ميزان القوى الحضارية يقع الآن؟

ليبوفتسكي : ليس انحطاط الحضارة اليهودية - النصرانية هو ما يميز عالمنا، ولكن ظهور الحداثة المفرطة السوقية والفردانية والمعولمة. يقال أحياناً إن الفردانية هي علامة مميزة للغرب. في هذا الكلام عدم انتباه إلى أنه إذا كانت حقوق الانسان بعيدة عن أن تكون المبدأ المنظم للقوانين وللسلطة في كثير من البلدان، فإنها مع ذلك تُرفع كشعار في القارات كلها؛ وإن كان ذلك يتم بشكل غير متكافئ ومع التعرض للقمع، فإنه يتم التعبير عن الحاجة إلى الحرية الفردية والرفاهية في كل مكان، وعن مبدأ حرية التصرف في الذات بالتوازي مع تفتت قبضة أنماط الحياة التقليدية.

--------------------------------

[3] الإشارة إلى كتاب "عالم ما بعد أمريكا The Post-American World" للصحفي الأمريكي فريد زكريا، ومداره على الحديث عن صعود الصين والهند في مقابل الانحطاط الاقتصادي لأمريكا (البشير عصام).

[4] الإشارة إلى كتاب "الانحطاط Décadence" للفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، وهو لوحة تاريخية تبدأ من زمن المسيح عليه السلام إلى العصر الراهن، تعبر عن معالم انحطاط حضارة الغرب (البشير عصام).

--------------------------------

من السذاجة الاعتقاد بأن حركية الفردانية، تتوقف عند أبواب الغرب. ففي روسيا المتحولة إلى ديمقراطية غير ليبرالية تنتشر مشاعر الشغف بالموضة والترف، وشهوات الفردانية الاستهلاكية. الصين - التي لا تستفيد من مؤسسات ديمقراطية ليبرالية – تعرف إطلاق العنان للفردانية التملكية وهيمنة الشركات الحرة. حتى في الدول التي تسيطر عليها الأصولية الإسلامية، فإن الفردانية في نمو مطرد. ويشهد على ذلك خصوصاً، مؤشرات انخفاض معدل الخصوبة، والتي صارت في دول مثل إيران وتونس، مساوية لما هي عليه في فرنسا. يُجسدُ انخفاضُ معدل الخصوبة بشكل نموذجي عصرنةَ السلوكيات وأنماط الحياة، وزعزعة علاقات السلطة بين الزوج وزوجته، وتحديد النسل وفقاً للرغبات الفردية.

مِن وراءِ مكافحة التغريب الثقافي، يوجد – في العمق - تقدم للنموذج الغربي الفرداني الذي يمس النظام الأسري : انخفاض أشكال الزواج التي تمليها الأعراف في الأردن ومصر والجزائر. في لبنان والمغرب العربي، صارت النساء يتزوجن في سن متأخر، أحياناً في سن 28 أو 30 سنة. يُمارَس الإجهاض على نطاق واسع في كازاخستان وأذربيجان وألبانيا. حتى الأصوليةُ الدينية الجديدة تبدو كديانة للفرد، ما دامت تعوضُ التدينَ التقليدي بالمبدأ العصري للاختيار والاقتناع الشخصي. لسنا نشهد عودة إلى طريقة الأسلاف، بل العكس : إلى انتقاد السلطات التقليدية، وإلى فردانية الانتماء، واستعادة التملك الفردي للاعتقادات[5]، ولو كان ذلك في ظل نمط ديني متشدد. وراء العلامات المُعلنة لإعادة أسلمة الثقافة والمجتمع، فإن الثقافة الحديثة للفرد هي التي تتقدم، معيدة تنظيم السلوكيات الأسرية والدينية.

---------------------------------

[5] من اللطيف أن يتنبه ليبوفتسكي لهذه "العلمنة من الداخل" التي صار الخطاب الإسلامي متشبعاً بها، في حين ما تزال تخفى على كثير من المتدينين .. (البشير عصام).

---------------------------------

من المؤكد أننا نشهد تحولاً في العالم نحو آسيا، لكن لا ينبغي أن نفسر هذا على أنه "حرب حضارات". ففوق أنه لا توجد مغايرة جذرية بين الثقافات، فإن هذه الأخيرة لا تفتأ تتحول ويعاد تشكيلها من خلال مبادئ الحداثة المفرطة الفردانية والتقنية والتجارية. تحت يقظة القوميات وإعادة التأكيد على الدين، تترتب خطوط قوة عالمية ومشتركة متطابقة في كل الأمكنة. لا يُعلِن هذا عن توحيد العالم، ولا عن نهاية الثقافات الوطنية، ولا عن السلم العالمي، ولكن لا يعلن أيضا عن "حرب الحضارات".

عصام : رغم تنامي الأنثوية خلال عدة عقود، فإن اللاتماثل الاجتماعي بين الذكور والإناث ما يزال مستمراً، ولا تزال المرأة مرتبطة بالأدوار العائلية القديمة. هل تعتقد أن نظرية الجندر الجديدة يمكنها تهديد هذا اللاتماثل ووضع أسس تبادل للأدوار كلي بين الجنسين، داخل الأسرة والمجتمع؟

ليبوفتسكي : للمرة الأولى في التاريخ، لم تعد مكانة الأنثى مرتبة مسبقاً ومنسقة من الأول إلى الأخير من طرف النظام الاجتماعي والطبيعي... الذي يتحكم في الوضعية الجديدة للمرأة الآن هو مبدأ عدم التعيين وحرية التحكم الذاتي. ولكن - وخلافاً لما كان يمكن تصوره - تَرافقَ هذا المسارُ التحرري بإعادة تمديد لمجموعة من السمات والوظائف الموروثة من التاريخ، إذ لا تزال النساء مرتبطات أساساً بالأقطاب العاطفية والجمالية والمنزلية. هنالك وهم يسقط : على الرغم من الدفعة القوية للثقافة الديمقراطية، فإننا لم نشهد أي تبادل أدوار فعلي بين الجنسين.

تجمع المرأة "مفرطة الحداثة" بين الثورة الحديثة للاستقلال الفرداني واستمرار الموروث التاريخي، بين حركية المساواة واستمرار اللاتماثل الاجتماعي بين الذكور والإناث. لذلك لا أعتقد أننا نسير نحو مجتمع "أحادي الجنس". هنالك لا شك "إكراهات" ذات طبيعة أنثروبولوجية تقود دون توقف إلى إعادة خلق التمايز، واللاتماثل بين الأنواع. أن يَعرِض المجتمع طموحات المساواة لا يلغي الحاجة إلى تقنين الهويات الجنسية، والتأكيد عليها بطريقة أو بأخرى. لا يمكن لأي مجتمع أن يفلت من ضرورة ترميز وعرض الهوية الجنسية.

لنعتبر - على سبيل المثال - بظاهرة العلاقة بالجمال، وهي ظاهرة معبرة جداً. من المفارقات، أنه بسبب تقدم معايير المساواة بين الجنسين، فإن المثل الأعلى اللامتساوي للجمال الأنثوي يتمدد، كأداة للتسجيل الاجتماعي للهوية والاختلاف الجنسي. كلما قل تكليف النساء بأدوار اجتماعية "ثقيلة"، كلما زادت فرص استمرار الاختلافات في الأدوار "الخفيفة" أو الجمالية. تريد النساء القدرة على التمتع بنفس حقوق الرجال، لكنهن لا يردن مشابهة الرجال. لا يتعلق الأمر هنا باستمرار نموذج عتيق، بل بمسار منسجم مع الاحتياجات الجديدة للهوية، ومع الحاجة إلى موازنة التحرر "مفرط الحداثة" من الضوابط في الأدوار الجنسية.

ها نحن في اللحظة التي تتصالح فيها ضرورة المساواة مع مطالب الاختلاف : تشارك النساء حالياً في النشاط المهني أو السياسي دون أدنى تراجع عن الهاجس التقليدي لتقديم الذات. في هذه الظروف، لا شيء يوقف حركية المبالغة في تقدير الجمال الأنثوي : فدوامة القيم المساواتية لا يمكن أن تجعل التفوق الجمالي لـ"الجنس الثاني" يختفي.

عصام : لم تنجح اللذات المُتَعية للمجتمع العصري المفرط الاستهلاك، في زيادة السعادة ولذة العيش. ما البدائل التي يمكن طرحها لتحسين مستوى سعادة الفرد المعاصر؟ وهل يمكن أن يلعب الدين دوراً في هذا المجال ؟

ليبوفتسكي : يجب علينا تخفيض أسباب المصائب الكبرى (مرض، بطالة، بؤس، حرب). للدين دور يمكن أن يلعبه، ولكنه بعيد عن الاستجابة لتطلعات سعادة البشر المعاصرين. ليس الدين هو الذي يمنح السلام، والعمل المثري، والخبز. لهذا علينا تطوير اقتصاديات ديناميكية، وسياسات للتضامن والتعليم المستمر. من الأكيد، أن ذلك لا يمنح السعادة آلياً، ولكن يساهم جزئياً في الأمر، بخلق ظروف مادية مرغوبة من الجميع، ومصادر مختلفة للرفاه والرضا. لدينا في الوقت نفسه قدرة كثيرة، وقليل من القدرة على تحقيق السعادة. كثيرة، بتنظيم مجتمعات أكثر ازدهاراً، أكثر حرية، وأقل استبداداً. وقليل من القدرة أيضاً، لأننا "نُمنَح" السعادةَ أكثر مما نبنيها إرادياً، إنها ليست نتيجة اقتصاد "جيد" أو عقيدة جيدة، ولكن نتيجة كياننا الخاص، إلى جانب التجارب المُعاشة، والظروف والصدفة.

هناك طرق كثيرة تسمح بزيادة السعادة لأكبر عدد، ولكن لا توجد علبة أدوات يستطيع بها كل فرد الاستمتاعَ بالفرح بالوجود. مع العجز عن معرفة كيفية الوصول إلى سعادة الضمير، فلا أقل من توفير أدوات للناس ليتمكنوا من اكتساب سعادة ظرفية في الحياة وفي الأنشطة "العملية". تبدأ الحكمة عندما ندرك أن عقلنا وأفكارنا الواعية لا يمكن أن توصلنا إلى حيث نتمنى الوصول. دعونا نعمل للوصول إلى السعادة العملية (صحة، عمل، فن، إبداع، رفاه مادي) ما دامت السعادة – في جزء كبير منها - لا تتعلق بالإرادة الفردية. هذه السعادة نعمة، وليست أثر سياسة أو اقتصاد أو أخلاق منهجية أو عمل على الذات المُريدة. لا شك أن العروض الروحية للنعيم يمكنها مساعدة البشر، لكنها ليست ضماناً للنجاح طالما أن كيمياء السعادة متفردة.

لا توجد قاعدة ذهبية: كل واحد يحاول - حسب قدرته - عبر"المحاولات والأخطاء" تصحيحَ مسار وجوده وتخفيفَه، بنتائج سعيدة وأحياناً أقل سعادة. مهما يكن الأمر، فإن تحصيل السعادة أمر غير مؤكد، وهش، وشخصي تماماً : سِرُّه لا يوجد في الاقتصاد ولا الدين ولا الكتب ولا في مكان آخر؛ ببساطة لأنه سر لا وجود له. توجد السعادة – في جزء كبير منها - دوننا، عبر سحر الأشياء؛ وتفارقنا دون أن نتمكن من فعل أي شيء.