أن تكون حرا - عائشة الشهري

أن تكون حرا معناه أن تدرك أنك لست حراً..!

عائشة الشهري

باحثة في الأخلاق - ماجستير عقيدة جامعة الملك خالد

 

الهرطيق الصغير:

بدأت في منتصف الخمسينات من القرن السابع عشر أحد مظاهر التمرد ضد العقيدة اليهودية المتزمتة على يد فيلسوف هولندا الشهير (باروخ اسبينوزا) اليهودي الديانة ، فأصدرت الكنيسة اليهودية قرار طرده من حظيرة الكنيسة بعد اتهامه بالالحاد ، وعاش وحشة الرجل المنبوذ من أهله والطائفة اليهودية وأيضاً أصدقاؤه من اليهود ، فانتقل إلى إحدى ضواحي مدينة ليدن وشرع في تأليف رسائله وتأملاته . وقد كان اسبينوزا طبيباً متضلعاً في العلوم الطبيعية ، ومُتقنا للعديد من اللغات كالإسبانية والبرتغالية والعبرية والفرنسية والايطالية ، كما كان ذو ثقافة واسعة ؛ أسفرت عنها فلسفة طارت بشهرته في انحاء أوروبا وأمه المعجبون من مختلف نواحيها بصفته الفيلسوف الأعظم . وتعتبر الصداقة أحد أهم العوامل التي دعمت اسبينوزا في حياته , فقد كان عدد كبير من أصدقائه شديدي الولع به ؛ حتى أن أحدهم لما أحس دنو أجله وكان تاجراً ثرياً ؛ عرض على اسبينوزا أن يكون هو الوريث لثروته ؛ ولكنه رفض ذلك . ولعل من أجمل ما عبر به اسبينوزا عن مكانة الصداقة في حياته قوله: "من بين كل الأشياء التي فوق طاقتي لا أقدر شيئا أكثر من تقديري لأن يكون لي شرف عقد أواصر الصداقة مع أناس يحبون الحقيقة في إخلاص" ( ).

الوعي بالانفعالات:

اهتم اسبينوزا بفلسفة الأخلاق كما هو شائع عند أعلام الفلسفة الحديثة , ودوّن تأملاته في الكون والانسان في عدة رسائل بالإضافة لكتابه الشهير (الأخلاق) . وكان من اشهر رسائله التي يتضح منها اهدافه مقولته: "بودي أن أوجه كل العلوم إلى وجهة واحدة أو غاية واحدة بالذات ، الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من الكمال الإنساني، ومن ثم ينبغي نبذ أي شيء في العلوم بلا يسعى لهذه الغاية، باعتباره عقيما غير مجد"( ).

كان اسبينوزا قد ركز في طرحه على موضوع الانفعالات النفسية , فتعرض لمجموعة من الانفعالات بالتعريفات الخاصة ؛ إلا أنه حدد مصطلح عام يشمل الانفعالات جميعاً فعرفها بأنها :" فكرة مختلطة تثبت بها النفس قوة وجود جسمها أو جزء منه ؛ قد تكون هذه القوة أعظم أو أصغر من ذي قبل , وقد تدفع النفس إلى التفكير في شيء بدلاً من التفكير في شيء آخر"( ) , وأكثر ما سعى إليه هو محاولة تقديم استنباط منطقي للعواطف والانفعالات ؛ حيث أن تفكير العقل بطريقة منطقية منظمة ؛ ينتج عنه انفعالات أكثر ايجابية. وتتمركز فلسلفة اسبينوزا أولاً على معرفة الله ؛ فهو الخير الأسمى والطريق الأعظم للعقل للتحرر من عبودية انفعالاتنا , وكلما فهم الأنسان الله ؛ كان أكثر حباً له , وحب الله هذا هو "خلاصنا , هو غبطتنا أو حريتنا"( ) فأعلى وظائف العقل إذاً وأعظم خيراته وأكبر فضائله هي معرفة الله ، ومن هذه المعرفة تنبثق لذة العقل ورضاه ؛ وبقدر ما نفهم علل الأشياء ونفهم أن الله علة كل شيء ؛ فإننا نشعر بإيجابية ونكون أقل انفعالاً , فعل سبيل المثال: "بقدر ما نفهم علل الألم فإنه لن يكون انفعالا , أعني أنه لن يكون ألماً , وبالتالي بقدر ما نفهم الله على أنه علة الألم فإننا نشعر بالبهجة"( ), كما أن ترابط وانتظام أفكار الأشياء وصورها الذهنية مع تكوّن فكرة واضحة عنها , يولد ترابط في انفعالات الجسم الناتجة , فبقدر ما يكون الانفعال معلوماً لدينا ؛ تكون النفس أقل تأثراً به( ) , ولعل أكثر القضايا التي طرحها عمقاً في هذا الموضوع هي قوله : "بقدر ما تدرك النفس الأشياء كلها على أنها ضرورية , تكون قدرتها على الانفعالات أعظم , أي أن خضوعها لها يكون أقل"( ), أي بقدر ما تدرك النفس أن كل الأشياء موجودة على وجه ضروري -حيث يتحتم وجود هذه الأشياء بهذه الصورة مهما كان هناك علل لذلك- بقدر ما يكون خضوعها للانفعالات الناتجة عن هذه الأشياء وتأثرها بها أقل ؛ وعلى سبيل المثال إذا علم الشخص من أنه ليس بوسعه الاحتفاظ بشيء ما بأي وجه من الوجوه ؛ فإن حدة الحزن بفقده تقل مقارنة بمن لا يدرك ذلك .

 

وهـــم الحُـــرية :

لعل من أشهر العواطف التي تحرك الأشخاص نزعة الحرية التي يشعر بها كل إنسان , فمما يميز الانسان عن غيره من الكائنات الأخرى (العقل والإرادة الحرة) ، ومن هذا العقل ينطلق الانسان لتحقيق الحرية , التي تعني في نظر اسبينوزا تحرر الإنسان من سيطرة غرائزه وشهواته وتبني العقل كمساند للعواطف للوصول إلى الهدف المطلوب , فالإنسان الذي تتحكم به العواطف لا يرى إلا جانباً واحداً من الموقف , كما أن العبودية تكمن بحق في عجز الانسان عن كبح انفعالاته والتحكم فيها( ).

ويقرر اسبينوزا أن الإنسان ليس حرا بل هو يتوهم الحرية ، فهو خاضع لضرورة طبيعية، لا يملك خيارا أمامها ، فهو عبارة عن نسق تسوده حتمية صارمة هي نفسها جزء لا يتجزأ من الحتمية الكونية (الطبيعة). فهو إنما يعتقد أنه حر ؛ لأنه يدرك انه يقوم بالفعل ؛ لكنه في الحقيقة يجهل السبب الذي يدفعه للقيام به ومن هذا السبب تأتي حتمية الأفعال، و يقدم في ذلك أمثلة من بينها مثال الحجر الذي يتحرك بفعل قوة خارجية، فلو امتلك هذا الحجر الوعي لاعتقد أنه هو الذي يقوم بالفعل بحرية لأنه يجهل السبب المحرك , و الأمر نفسه بالنسبة للإنسان ، فالجبان على سبيل المثال يعتقد أنه يهرب بشكل حر غير أن الضرورة الطبيعية المتمثلة في الخوف هي التي تدفعه لذلك , وعليه فالحرية ما هي إلا وعي الضرورة فأن تكون حرا معناه أن تدرك أنك لست حراً بل خاضع للضرورة .! ( ), وإذا كان من حق الانسان الحكيم أن يعيش وفقاً لقوانين العقل ؛ فالجاهل والأحمق من حقه أن يعيش وفق قوانين الرغبة , وليس ملزما بأن يعيش وفقاً لتعاليم العقل ؛ فالقط ليس ملزماً أن يعيش وفق لقوانين طبيعة الأسد على حد وصفه ( )

ولعل أهم حرية ركز عليها اسبينوزا في تصوره للدولة ، هي حرية التفكير والتعبير ؛ لأنه يستحيل سلب الأفراد حريتهم في التعبير عما يعتقدون , "وإذا تم إخماد حرية التعبير , فإن النتيجة ستكون ظهور الحمقى والمتملقين والخائنين"( ) , والهدف من تأسيس الدولة ليس إرهاب الناس أو إخضاعهم للسلطة العليا بالعنف والقمع والمنع ، وتحويلهم إلى حيوانات أو آلات صماء ، بل الغاية الرئيسية من تأسيس الدولة هي إخراج الناس من حالة الفوضى والشهوة إلى حالة تخضع إلى العقل، وإتاحة الفرصة لهم لتنمية أذهانهم وأبدانهم في آمن وسلام ؛ فأكثر الدول تقدماً هي تلك التي يحظى أفرادها بأكبر قدر ممكن من حرية التعبير والتفكير ؛ ولكن ومن الخطأ منح الأفراد حرية مطلقة في التعبير عن الرأي بل ينبغي أن تقنن هذه الحرية ؛ لأنها قد تشكل خطراً على الدولة أحياناً ، إذا كانت تهدف من وراء ذلك إلى اتهام السلطات بالظلم ، والتحريض عليها لإثارة غضب العامة ، أو محاولة إلغاء القانون رغما عن السلطات عن طريق إثارة الفتن ، فحينها يسمى الفرد مشاغباً ومتمرداً لا حراً ؛ لذلك فإن اسبينوزا يضع شرطاً أساسياً لهذه الحرية، فالمرء يستطيع أن يفكر وأن يصدر حكمه بحرية تامة ، وأن ينتقد صاحب السيادة بشرط أن يعتمد في ذلك على العقل , وليس رغبة في التسبب بالإزعاج والاضطراب( ).

ويكون من الحق في إنصاف اسبينوزا ؛ القول أنه لم تكن لديه النية لتقديم رؤية أخلاقية باعثة , وإنما اراد تقديم أخلاق تحليلية فقط , ولهذا نجد أن تحليلاته جاءت بين وصف السفسطة والفلسفة ؛ فقد هاجمها اللاهوتيون من ناحية والفلاسفة من ناحية أخرى , وقد حُكم على فلسفته بالإلحاد كما تقدم , ووصفت بقصورها وأنها من المحال , وما هي إلا مجرد سفسطة غامضة وتلاعب بالألفاظ والصيغ الهندسية , ولا تستحق الاهتمام البالغ ؛ إلا أن الأمور قد تغيرت بمرور الزمن , وشرع الفلاسفة في الاهتمام بمؤلفاته بحماسة شديدة , باعتبارها تقدم رؤية أخلاقية تستحق الاهتمام بجدارة , فعبر جوته بالإضافة إلي هيجل وغيرهم عن تأثرهم بفلسفة اسبينوزا واذعانهم لها , مع التأكيد على أن تهمة الالحاد التي وصف بها اسبينوزا لا أساس لها من الصحة .( )

 

المراجع :

تاريخ الفلسفة (الفلسفة لحديثة) , فردريك كوبلستون , ترجمة : سعيد توفيق , القاهرة , المركز القومي للترجمة , جـ 4.

علم الأخلاق , باروخ سبينوزا , ترجمة : جلال الدين سعيد , تونس , دار الجنوب للنشر .

قصة الفلسفة , ول ديورانت , ترجمة : فتح الله المشعشع , بيروت , مكتبة المعارف .

قصة الحضارة , ول ديورانت , ترجمة : زكي نجيب محمود وآخرين , بيروت , دار الجيل .